قناة د. أيمن صفوت سالم

عيبٌ عليك أن لا يكون لك أي معيار تقييمي لغيرك إلا بمذهبه العقدي أو الفقهي.
ما رأيك أن تجرب أن تكون معايير تقييمك لغيرك أخلاقية أو اجتماعية، أو أن تكف مطلقًا عن التقييم وتنشغل بنفسك؟

هذه هي الغرفة التي ولد فيها سيد الخلق سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم

تنساب كلمات الكُتَّاب على الورق كالسيل الهادر إذا كانت عن آبائهم الروحيين، أقصد شيوخهم.
يتعلق الطالب بشيخه تعلُّق الغريق بالقشة، ولو صار شيخًا وإمامًا فإنه مستمسك بأبيه حتى تكون السلسلة وثيقة العُرى.
والتمسك بالسلسلة يحمي صاحبها من الوقوع، فلو ترك هو لسقط، ولبقي مَن فوقَه محميًا باتصاله بمن فوقه.
ينظر العلامة السخاوي -صاحب كتاب الضوء اللامع- إلى شيخه العلامة ابن حجر العسقلاني نظرة يتبينها من وقف على جهده في ترجمة شيخه، فإنه لم يكتف بترجمته مطولًا في كتابه الضوء اللامع؛ وإنما أفرد لترجمته كتابًا برأسه سماه: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، وهو يقع في ثلاثة مجلدات تعد ذخيرة علمية هائلة، مشحونة بالفوائد والجواهر والدرر كما سماها صاحبها.
ولا يكون الوقوف وتكرار النظر في مثل تلك الأسفار دائمًا إلا لباحث أدمن تلك الأخبار، وصار استئناسه بابن حجر والسخاوي وغيرهما أعظم من استئناسه بمعاصريه.
وقد وقفت على هذا الكتاب بدلالة شيخ الباحثين العالم الجليل يوسف الصبحي، مدير مكتبة مكة المكرمة، والذي تتفجر ينابيع الحكمة على لسانه، ويظهر نور حب النبي وصحابته ودواوين الإسلام ورجاله وتاريخ مكة وآثارها على ضوء عينيه اللامع.
وإذ إن الرجل يستمد أنواره من الغوص في تاريخ الزمان، فإن جغرافية المكان الذي يجلس فيه تشحن روحه وعقله بروحانية الزمكان، فموقع المكتبة في منطقة الغزة جهة المسعى متصلة بالحرم، وهو المكان الذي ولد فيه سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أكرمنا الشيخ يوسف بإتاحة زيارته في المكتبة التي تحوي ٢٣ مكتبة من مكتبات علماء مكة القدماء، تلمست فيها كتبهم ونظرت فيها إلى تعليقاتهم، وقد أصبت بالقشعريرة إذ وقفت في المكان الذي وضعَتْ فيه السيدة آمنة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن كان لا دليل على المكان.
أرأيت أن آخر المقال ينقض أوله، أَكمِل ما نقص من الفكرة أولًا، وليكن ما بقي من المقال تذكيرًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ثانيًا.
ثم دعني الآن لأستريح، فلو كنت أكتب بالقلم لأكملت، ولكني أنقر بإبهامي على شاشة الهاتف، وحظك اليوم أن النقرة لا تتزامن مع الحرف، لأن الجوال في بعض الأحيان يتباطأ فيصير كما يسبق الصوت حركة الشفاه في الأفلام؛ فترى حال المتفرج كأنه يُعذّب بقطر الماء على رأسه قطرة قطرة كما كانوا يفعلون في محاكم التفتيش في أسبانيا.

كان الوالد رحمه الله يرقد على سرير وفاته في المستشفى، وكان بين غياب طويل وصحو خفيف.
ويوم أن كان في صحوه وقفت وإخوتي نكلمه وكان صوته ضعيفا لا يكاد يخرج، فأردت أن أنشطه وأتأكد من صحوه فقلت: من هم القراء العشرة؟
فنظر إليَّ بنصف عين وقال: ماتستعبطش
😊
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع القراء والمقرئين، مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

على ما في العلوم من اتساع، وإعمال العقل والنظر، واجتهاد أصحابها فيها للوصول إلى المراتب العليا، إلا أن جميعهم يغبط المشتغل بالقرآن إذا حضرَتِ الوفاة أحدًا منهم متحسرًا أن لو كان من أهل القرآن.
ومن ذلك ما كان من نفطويه الإمام في الحديث واللغة، أنه كان يمر مع ابن خالويه بمسجد خلف بن هشام البزار (خلف العاشر) ، مقرئ بغداد، وأحد القراء العشرة، فقال: هذا مسجد خلف مقرئ أهل بغداد، والله ما كان بأعلم مني، ولكنه أطاع الله فرفع منه، وعصيتُ الله فوضع مني.
وهذه الحسرة رأيتها في عيون عدد من المشتغلين بالعلم يوم أن حضرتهم الوفاة.
ولم يكن أهل القرآن في تلك الحسرة، بل في تعلق بالله بتلك الوسيلة واستحضارها.

علاقة إتمام الحركات بالتفخيم والترقيق.

رجل توفيت أمه، فأراد أن يعتمر عنها أحدَ طلاب العلم الصالحين مقابل مبلغ مالي، فكلم أحد الشيوخ لينظر له في الأمر.
فقام الشيخ باختيار أحد طلاب العلم الفقراء، البالغين من الفقر مبلغه لينتفع بالبدل، وكان ابن المتوفاة قد أوصى بأن يكثر الدعاء لأمه في العمرة بإخلاص.
وقد كمُلت المهمة، واعتمر الأخ عن المرأة المتوفاة، ودعا لها دعاءً خالصًا، وأخذ المبلغ المتفق عليه.
ثم بعد أسبوع، رأى الرجل أمه المتوفاة في المنام تشكره شكرًا جزيلاً على تلك الهدية التي أرسلها لها، وهي العمرة، وعلم عندها أنها علامة على قبولها إن شاء الله، لإخلاص ذلك الرجل في أدائها.
فاتصل على الشيخ الذي أوصله به، وأجرى على طالب العلم ذاك راتبًا شهريًا يغطي احتياجاته إسداءً لمعروفه في أمه، ولأن الله قدَّر لذلك الشاب ذلك الرزق من حيث لا يحتسب.

فصل في إشراك الحاجبين الفمَ في التلاوة.
أخطأت يا عزيزي إذ فهمت أني أوجهك لذلك، لا تفعل، فإن عضو النطق الظاهر هو الفم فقط.
جلست يومًا بجانب أبي -رحمه الله- لمَّا حضر إليه أحد طلابه الذي بدوره أجاز طالبًا أحضره معه، فالوالد هنا بمثابة جدِّه في الإسناد، وقد أحضره ليطمئن أن الطالب قد سار على الجادة التي تلقاها هو عن شيخه.
ولمَّا بدأ الرجل يقرأ فإذا بحاجبيه يرتفعان في المد، وتنغمس عينه في الغنة، وينتفش أنفه في الإظهار، فصار لكل حكم عضوٌ في وجهه ينطق به.
ولما كنت أتأثر بمن أمامي؛ وجدتني رافعًا حاجبيَّ معه، ونافشًا أنفي، إلا أن فمي لم ينطق، لأنه متعطل بقراءته هو.
ثم رفعت بصري إلى الوالد -رحمه الله- فوجدته قد خفض بصره عن الطالب وقد أمسك أنفه بيده، ليحول دون انتفاشه لا إراديًا.
وبعد انتهاء الرجل من القراءة شعرت وكأن أحدهم قد أسدى إليَّ معروفًا بأن توقف عن ذلك المساج الذي عمله في وجهي.
ثم التفت إليه أبي قائلًا: إنت بتقرا بوشَّك ولّا ببقك؟
انتبه أن تُشرك غير فمك في النطق، حتى لا تكون مسرحًا للنظر والأذى.

علمت مؤخرًا من بعض الناس أن طالبًا قرأ على الوالد رحمه الله ختمة كاملة عن بعد، فتفاجأ ذلك الطالب أن الوالد رحمه الله كتب شهادة قال فيها: وبعد: فقد قرأ عليَّ أخي فلان ختمة كاملة (غيبًا نظرًا)، وأراد الطالب أن يغيرها ويمحو كلمة (نظرًا).
وعند سؤاله من بعض الشيوخ: هل كنت تفتح المصحف وأنت تقرأ على الشيخ عن بعد؟، فقال: نعم في مواضع لم أراجعها جيدًا.
الجميل أن الوالد رحمه الله لم يواجهه بما شعر به لئلا يجرحه، بل أعطاه الخابور في تلك الشهادة بعد انتهائه.
لا أدري كيف يستطيع أحدهم استغفال شيخ قضى سنوات متطاولة في الإقراء، ويحسب أن الشيخ لا يعرف أن الطالب يقرأ غيبًا أم نظرًا؟
رحمة الله عليك يا أبي.
إني في شوق إليك.