
كتب الإمام ابن القيم
جمع لكتب الإمام المحدث المفسر الفقيه أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزُّرْعِيَّ
المعروف باسم "ابْنِ قَيَّمِ الجُوزِيَّةِ" أو "ابْنِ القَيَّمِ"
الواجب على ولي الأمر فعلُ ما أمره الله به، وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم، ومنعِهم من الولايات في جميع أرض الإسلام. ولا يَلتفِت في ذلك إلى مُرجِفٍ أو مُخذِّلٍ ...
ابن القيم | أحكام أهل الذمة
رضا العبد بطاعته دليلٌ على حسنِ ظنِّه بنفسه، وجهلِه بحقوق العبوديّة، وعدمِ علمِه بما يستحقُّه الرّبُّ جل جلاله ويليق أن يُعامَل به.
وحاصل ذلك
:
أنَّ جهلَه بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهلَه بربِّه وحقوقه وما ينبغي أن يُعامَل به= يتولَّد منهما رضاه بطاعاته، وإحسانُ ظنِّه بها. ويتولَّد من ذلك من العُجْب والكِبْر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظّاهرة من الزِّنى، وشرب الخمر، والفرار من الزَّحف، ونحوها. فالرِّضا بالطّاعة من رعونات النّفس وحماقتها.
وأربابُ العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفارًا عقيبَ الطَّاعات، لشهودهم تقصيرَهم فيها وتركَ القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنّه لولا الأمرُ لَما أقدَمَ أحدُهم على مثل هذه العبوديّة، ولا رضيها لسيِّده.
وقد أمر الله تعالى وفدَه وحُجّاجَ بيته بأن يستغفروه عقيبَ إفاضتهم من عرفاتٍ، وهو أجلُّ المواقف وأفضلُها، فقال: {
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
} [البقرة: 198 - 199].
وقال تعالى: {
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
} [آل عمران: 17]. قال الحسن رضي الله عنه:
مَدُّوا الصّلاةَ إلى السَّحر، ثمّ جلسوا يستغفرون الله عز وجل
.
وفي "الصّحيح" أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم استغفر ثلاثًا، ثمّ قال: "
اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام
".
وأمره الله سبحانه بالاستغفارِ بعد أداء الرِّسالة، والقيامِ بما عليه من أعبائها، وقضاءِ فرض الحجِّ والجهاد، واقترابِ أجله، فقال في آخر ما أنزل عليه: {
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
} [سورة النصر]. ومن هاهنا فَهِم عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أنَّ هذا أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه به، فأمَره أن يستغفره عقيبَ أداء ما عليه، فكان إعلامَه بأنّك قد أدّيتَ ما عليك، ولم يبق عليك شيءٌ، فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمةَ الصّلاة والحجِّ وقيام اللّيل، وخاتمةَ الوضوء أيضًا إذ يقول بعد فراغه "
اللهمَّ اجعلني من التَّوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين
".
فهذا شأنُ مَن عرَف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبوديّة وشرائطها، لا جهلُ أصحاب الدَّعاوى وشطحاتُهم.
وقال بعضُ العارفين: متى رضيتَ نفسَك وعملَك لله، فاعلم أنّه غيرُ راضٍ به. ومَن عرَفَ أنَّ نفسَه مأوى كلِّ عيبٍ وسوء، وعملَه عُرْضةُ كلِّ آفةٍ ونقصٍ، كيف يرضى لله نفسَه وعملَه؟
ولله درُّ الشّيخ أبي مدين حيث يقول: من تحقَّق بالعبوديّة نظَر أفعالَه بعين الرِّياء، وأحوالَه بعين الدّعوى، وأقوالَه بعين الافتراء. وكلَّما عظُم المطلوبُ في قلبك صغُرتْ عندك وتضاءلت القيمةُ التي تبذلها في تحصيله. وكلَّما شهدتَ حقيقة الرُّبوبيّة وحقيقةَ العبوديّة، وعرفتَ الله وعرفتَ النّفس، تبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحقِّ، وإنّما يقبله بكرمه وجوده.
ابن القيم | مدارج السالكين
وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمرُ الجامع لذلك: أنه الذي قد سَلِمَ من كل شهوة تخالف أمرَ الله ونهيَه، ومن كل شبهةٍ تُعارِض خبره، فسَلِم من عبودية ما سواه، وسَلِم من تحكيم غير رسوله؛ فسلِم من محبة غير الله معه، ومن خوفه ورجائه والتوكلِ عليه، والإنابة إليه، والذلِّ له، وإيثارِ مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلُح إلا لله وحده.
فالقلب السليم هو الذي سَلِمَ من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجهٍ ما، بل قد خلصتْ عبوديته لله تعالى: إرادةً، ومحبةً، وتوكلًا، وإنابةً، وإخباتًا، وخشيةً، ورجاءً، وخلصَ عملُه لله، فإن أحبَّ أَحَبَّ في الله، وإن أبْغضَ أبْغضَ في الله، وإن أعْطَى أعطى لله، وإن مَنَع منع لله . ولا يكفيه هذا حتى يَسْلَم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فيَعقِد قلبَه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحدَه دون كل أحد، في الأقوال والأعمال: أقوال القلب وهي العقائد؛ وأقوال اللسان وهي الخبر عما في القلب؛ وأعمال القلب، وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها؛ وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دِقّه وجِلّه هو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى: {
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
} [الحجرات: ١] أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر.
ابن القيم | إغاثة اللهفان
وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان الإكثارُ من أنواع العبادات، وكان جبريل يدارسه القرآنَ في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجودَ بالخير من الرِّيح المرسلة، وكان أجود النَّاس، وأجود ما يكون في رمضان ، يكثر فيه من الصَّدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصَّلاة والذِّكر والاعتكاف.
ابن القيم | زاد المعاد
قال تعالى لأكرم خلقه عليه، وأحبهم إليه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨]، وقال جوابًا لمن قال: ﴿هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
فالمُلك كله له، والأمر كله له، والحمد كله له، والشفاعة كلها له، والخير كله في يديه، وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية، فلا إله غيره، ولا ربّ سواه.
﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ مُمْسِكَاتٌ رَّحْمَتَهُ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ﴾ [الزمر: ٣٨]، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنعام: ١٧]، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهْوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: ٢].
فاستَعِذْ به منه، وفِرَّ منه إليه، واجْعَل لَجَأك منه إليه؛ فالأمر كله له، لا يملك أحد معه منه شيئًا، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضرّ سمٌّ ولا سحرٌ ولا شيطانٌ ولا حيوانٌ ولا غيرُهُ إلا بإذنه ومشيئته، يصيب بذلك من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.
فأعرف الخلق به وأقومهم بتوحيده مَن قال في دعائه: «وأعوذ بك منك»، فليس للخلق مَعَاذ سواه، ولا مُسْتعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه، وتحت قهره وسلطانه...
ابن القيم | شفاء العليل
وإذا كان اللَّه سبحانه قد غفر لمن سقى كلبًا على شدة ظمئه فكيف بمن سقى العطاش، وأشبع الجياع، وكسا العراة من المسلمين؟!
ابن القيم | عدة الصابرين
الذكر شجرةٌ تُثْمِر المعارف والأحوال التي شمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلَّها، مِنَ اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام، وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها، كما يُبْنَى الحائط على أُسِّه، وكما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يُمْكِنْه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم، فالغفلة نومُ القلب أو موتُه.
ابن القيم | الوابل الصيب
العلماء ، وأئمة العدل ، وأهل الجهاد ، وأهل الصدقة ، وبذل الأموال ؛ في مرضاة الله ..
فهؤلاء ملوك الآخرة ، وصحائفُ حسناتهم متزايدة ، تُملى فيها الحسنات وهم في بُطُون الأرض ، ما دامت آثارهم في الدنيا .
ابن القيم | طريق الهجرتين